في العام العاشر من البعثة – قبل الهجرة بقرابة 3 سنوات – قام النبي بزيارته الشهيرة إلى الطائف التي أمِلَ منها أن يخرج بدعم قبيلة ثقيف. لم يكتفِ أهل الطائف برفض دعوة النبي، وإنما قذفوفه بالحجارة حتى أصابوه بجروحٍ دامية، فلجأ إلى بستانٍ مملوك لشيبة وعُتبة ابني ربيعة.
في البستان، قابل النبي غلاماً نصرانياً من نينوى (وهي مدينة عراقية قديمة، أقيمت على الضفة اليسرى لنهر دجلة) يُدعى عدّاس، قدّم للرسول بعض العنب وخاضا حديثاً طويلاً انتهى بإيمان عدّاس بنبوة النبي، ليكون أول إنسان من أرض العراق يدخل الإسلام. يصفه كتاب «رمضان بين يديك» الذي أعدّه مجموعة من الدعاة الإسلاميين المعاصرين بأنه «فتى عربي من بقايا الآشوريين» فُتح قلبه على الإسلام سريعاً.
فما قصة «عدّاس»؟ وماذا نعرف عنه غير مشاركته في «واقعة البستان» سالفة الذِكر؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا المقال.
ما قبل الواقعة
تباينت مواقف المؤرخين حول سيرة عدّاس قبل تلك الحادثة، وحول أسباب تركه وطنه في العراق، وتفضيله العيش في صحراء الجزيرة. يقول أحمد إبراهيم الشريف في كتابه «مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول»، إن عتبة وشيبة ابني ربيعة استقدما عدّاس العراقي للعناية ببستانهما، وهو ما دفعه لتخمين أنه «خبير زراعي جُلب أو اشتُري خصيصاً لذلك العمل».
فيما يقول جواد علي في كتابه الموسوعي «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» إن الطائف كان بها نفر من الموالي على دين النصرانية، لم يتعرض سادتهم لدينهم، فتركوهم يقيمون شعائرهم الدينية على نحو ما يشاءون. من هؤلاء عداس، وكان من أهل نينوى، أوقعه حظه في الأسر، فبيع في سوق الرقيق، وجيء به إلى الطائف، فصار مملوكاً لعتبة وشيبة ابني ربيع.
كما يمنحنا محمد أبو شهبة في كتابه «السيرة النبوية على ضوء القرآن والسُنة» معلومة إضافية عن مدى تديُّن عدّاس، إذ يقول: «عدّاس النينوي لم يكن له علم بالنصرانية إلا الانتماء إليها»، وهو ما يتناقض مع ما ذكره الأب سهيل قاشا في كتابه «صفحات من تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام» حيث وصف عدّاس بأنه كان راهباً عالي الشأن مثله مثل العالم بحيرى الذي بشّر بظهور النبي، وهو الرأي الذي أميل لصحته كما سأبيّن لاحقاً.
مستشار خديجة
وفقاً لما ذكره مرتضى الزبيدي في كتابه «تاج العروس من جواهر القاموس»، فلقد انبهر عدّاس بشخصية النبي وقال له «لقد خرجتُ منها (يعني نينوى) وما فيها عشرة يعرفون ما متّى، فمن أين عرفت متّى وأنت أميّ، وفي أمة أمية؟»، فشرح له الرسول أنه ويونس بن متى نبيان مكلّفان برسالة من الله تعالى، فأسلم عدّاس وأخطره باتّباعه دعوته.
على الرغم من شُهرة هذه الرواية، إلا أنها - وبحسب كُتب التاريخ الإسلامي - لم تكن أول مرة يتعامل فيها عدّاس مع النبي، وإنما سبق وأن احتكَّ بخبرِه بشكلٍ غير مباشر، من خلال زوجته السيدة خديجة.
فأحد الجوانب المجهولة في حياة عدّاس هو أن السيدة خديجة بنت خويلد زوجة النبي كانت تعرف بخبره وتثق في رأيه قبل الإسلام. فبحسب ما ذكره شمس الدين الذهبي في كتابه «تاريخ الإسلام»، حين أخبر النبي زوجته خديجة بظهور جبريل له وتكليفه بنشر الرسالة، انطلقت إلى «عداس غلام عتيبة بن ربيعة، وكان نصرانياً من أهل نينوى». وبحسب الرواية، فإن خديجة سألته عن جبريل، فأجابها: «إنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام». اكتفت خديجة بما سمعته، وخرجت من عنده إلى ورقة بن نوفل تستعلم منه المزيد بشأن ما وقع لزوجها المّكلّف لتوّه برسالة السماء.
هذه الرواية توقعنا في حيرة بالغة، فلا يستقيم وضعها أبداً بجوار الرواية الأولى والأشهر بشأن مساعدة عدّاس للرسول في الطائف بعد تكليفه برسالة الإسلام بعشر سنوات. باستقراء مروية «لقاء الطائف»، فإن النبي لم يكن يعرف عدّاسا، وتعامل معه وكأنه لم يسمع عنه خبراً من قبل. فكيف يستقيم ذلك مع تعامُل السيدة خديجة معه كـ«مرجعية» في شؤون الوحي وتنزيل الرسالات من السماء؟
ذُكرت تلك الرواية في عددٍ كبير من كتب التاريخ الإسلامي مثل «الروضة الفيحاء في أعلام النساء» لياسين الخطيب، و«السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي» لأحمد غلوش.
هذه الإشكالية تعرّض لها محمد عابد الجابري في كتابه «مدخل إلى القرآن االكريم»، ووعلي بن برهان الحلبي في كتابه «السيرة الحلبية»، لكنهما لم يتمكنا من التوفيق بين الروايتين فائقتي التعارض.
يُعلّق جواد علي في كتابه «تاريخ العرب في الإسلام» قائلا إن بعض الرواة حاولوا التوفيق بين القصتين، فزعموا أن عداساً الذي قابله النبي غير عدّاس الذي لجأت إليه السيدة خديجة، وهو ما وصفه جواد بأنه «استدراك لا يُمكن قبوله».
علوم التفسير تحل مشاكل التاريخ
ما يُزيد من قوة الروايات التي قدّمت عدّاسا باعتباره الرجل الحكيم العالم بأنباء الوحي وأهل الكتاب، هو الاستقراء الجيد لآيات القرآن، وبخاصة كُتب التفسير، التي لا تُقدّم عدّاسا باعتباره مُجرد «غلام نصراني لا يعرف شيئاً عن دينه»، بل تعتبره «علاّمة في الدين»، حتى أن بعض أهل مكة لما حاولوا التشكيك في أصالة القرآن اختاروا عدّاساً تحديداً لاتّهامه بأنه مَن يؤلّف الآيات للنبي.
ذكرت موسوعة «التفسير المأثور» الصادرة عن مركز الدراسات والمعلومات القرآنية، في معرض تفسيرها لآية «ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين» (سورة النحل: الآية 103)، إن قريشاً اتّهمت النبي بأنه تعلّم القرآن من «عدّاس غلام عتيبة». وتنفرد هذه الرواية بذِكر تفصيلة جديدة من حياة عدّاس، وهي أنه كان «يهودياً (وليس مسيحياً هذه المرة) فأسلم، وكان يقرأ كتابه بالعبرانية». لذا عدّه القرآن «أعجمي»، وسخر من مزاعم قريش بشأن قُدرته على وضْعِ القرآن «العربي المُبين».
الأمر تكرّر حين فُسّرت آية «ثم تولّوا عنه وقالوا مُعلم مجنون» (الدخان: 14). واعتبر محمد الدرة في كتابه «تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيان»، أن المقصود بأنه علم النبي هنا هو عدّاس، «غلام أعجمي لبعض ثقيف»، ادّعى كفار قريش أنه يلقّن النبي تعاليم الإسلام، وهو التفسير نفسه الذي قدّمه ابن أبي زمنين في كتابه «تفسير القرآن العزيز» لنفس الآية.
تكرّر ذلك أيضاً مع آية أخرى، وهي «قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون» (الفرقان: 4)، التي فسّرها الفقيه العز بن عبدالسلام بأنها تعود إلى «عداس مولى عتبة»، الذي أشاعوا عنه أنه أعان النبي على تأليف القرآن.
وبلا شك، فإن عدّاس لو كان مجرد غلام نصراني، ضعيف العِلم والأثر، لا يعرف عن دينه إلا مجرد الانتماء إليه، لما اعتنى أهل مكة بتضخيم نبأ لقائه بالنبي وعلاقته به كوسيلة للتشكيك في دعوته.
كل هذه الآراء تعضّد ظنّي الذي لم تنصُّ عليه كتب التاريخ صراحة، بأن عدّاساً هو راهب أتَى من العراق وعاش مختبئاً في الجزيرة، ربما لأن آراءه الآريوسية كانت محل انتقاد وقمع من سُلطة الكنيسة، لذا قبل العمل عبداً في بستان الطائف كوسيلة للتخفي وإنقاذ حياته من بطش الكنيسة، حتى التقى بالنبي فغيّر معتقده بالكلية وصار مُسلماً.
حياة عدّاس بعد لقاء الرسول
شدّدت أغلب المصادر الإسلامية على أن عدّاسا أسلم بمجرد لقائه النبي، وبعدها اختلفت في مصيره عقب تلك الواقعة، لكن الأرجح أنه لم يغادر الطائف وعاش بها فترة طويلة، وربما مات فيها كما زعم بعض الإخباريين.
في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة»، ينقل ابن حجر العسقلاني عن الواقدي أن عدّاساً كان موجوداً بالطائف خلال استعدادات شيبة وعتبة لغزوة بدر، وأنه حاول منعهما من الخروج قائلاً: «بأبي وأمي أنتما والله، إنه لرسول الله، وما تُساقان إلا إلى مصارعكما». لم يسمع شيبة وعتبة لرأي خادمهما، وخرجا إلى بدر حيث قُتلا فيها على يد حمزة بن عبد المطلب.
وبحسب كتاب «مغازي الواقدي»، فيقال رجع عداس ولم يشهد بدرا، ويُقال شهد بدرا وقتل يومئذ. يقول الواقدي: «والقول الأول أثبت عندنا». وهو الرأي الذي انتصر له رفاعة الطهطاوي في كتابه عن سيرة الرسول.
أما في كتابه «على هامش السيرة»، فيقدّم طه حسين خاتمة مغايرة تماماً لحياة عدّاس، بعدما أكّد أنه عاش في الطائف حتى أتاها النبي غازياً في العام الثامن بعد الهجرة. يقول حسين:
«انتقل عدّاس من مُلك ابني ربيعة بعد موتهما إلى الثقفيين، وإذا نفسه تنازعه إلى صاحبه، وإذا هو يحرّض الرقيق ويبث فيهم الدعوة إلى الخروج على سادتهم واللحاق بجيش المحاصرين، وإذا نفر من الرقيق يجتمعون إليه، وإذا هم يقتحمون الأسوار ويهبطون إلى العسكر مسرعين، وترميهم مقاتلة ثقيف بالنبل فتصرع منهم جماعة فيهم عداس، فقد مات قبل أن يبلغ صاحبه العظيم».
رغم هذا الاختلاف، ظلَّ عدّاس موضع اهتمام من المسلمين. وإلى اليوم، تستضيف الطائف مسجداً أثرياً صغير المساحة أقيم في موقع البستان الذي أوَى إليه النبي، يُعرف بِاسم مسجد عدّاس. بينما يقول المؤرخ حمد بن صراي في كتابه «المعجم الجامع» إن موضع المسجد كان معبداً قديماً لعدّاس.